القاهرة القديمة: رحلة بين الحرف والذكريات

  • تاريخ النشر: الخميس، 23 أكتوبر 2025 زمن القراءة: 3 دقائق قراءة
القاهرة القديمة: رحلة بين الحرف والذكريات

في قلب العاصمة المصرية الحديثة، حيث تصطف الأبراج الزجاجية والمباني الإدارية، تختبئ القاهرة القديمة كدرّة زمنية تشهد على أكثر من ألف عام من التاريخ والفن والروح الإنسانية. هذه المدينة التي كانت ذات يوم مركزًا للخلافة الفاطمية، وملتقى للتجار والحرفيين والعلماء، لا تزال اليوم تنبض بالحياة وتُبهر الزائرين بجمالها المعماري وروائحها الممزوجة بالبخور والنحاس والجلد. التجول في أزقتها هو بمثابة عبور بين قرونٍ من الحكايات، حيث يتداخل الماضي بالحاضر في مشهدٍ يندر أن تجده في أي مدينة أخرى بالعالم.

خان الخليلي: قلب الحرف التقليدية

يُعد خان الخليلي واحدًا من أقدم وأشهر الأسواق في الشرق الأوسط، إذ تأسس في القرن الرابع عشر خلال حكم السلطان المملوكي جركس الخليلي، وما زال حتى اليوم يحتفظ بسحره العتيق. عند دخولك الخان، تشعر وكأنك انتقلت إلى زمن آخر؛ أصوات النحاسين تعزف إيقاعًا متناغمًا مع نداءات الباعة، وروائح العطور الشرقية تختلط بعبق التاريخ المنبعث من جدران المحلات الحجرية القديمة.
الخان ليس مجرد سوق تجاري، بل هو متحف مفتوح يعكس مهارة الحرفيين المصريين الذين ورثوا صناعات الآباء والأجداد، مثل النقش على الفضة وصناعة المصوغات اليدوية والمشغولات النحاسية. الزائر يمكنه مشاهدة الحرفيين وهم يعملون في الورش الصغيرة بمهارة فائقة، أو الجلوس في مقهى "الفيشاوي" الشهير الذي يعود إلى أكثر من مئتي عام، حيث جلس نجيب محفوظ يوماً يكتب روائعه مستلهماً أجواء هذا المكان الأسطوري. خان الخليلي يجمع بين الحرفة والتراث، بين البيع والذكرى، ليبقى شاهداً على عبقرية المصري في تحويل المهنة إلى فنٍّ خالد.

شارع المعز: متحف مفتوح على التاريخ الإسلامي

يمتد شارع المعز لدين الله الفاطمي كأحد أبرز الشواهد على عظمة العمارة الإسلامية في القاهرة، ويُعد أطول شارع أثري في العالم الإسلامي، إذ يضم ما يزيد على 30 أثرًا تاريخيًا بين مساجد ومدارس وقصور وحمّامات. تأسس الشارع في القرن العاشر الميلادي، وكان يُعد الشريان الرئيسي للمدينة الفاطمية. السير فيه اليوم يعني استحضار عصور السلاطين والأمراء، حيث يتجاور مسجد السلطان برقوق مع مدرسة الصالح نجم الدين أيوب، وتطل واجهات البيوت المزخرفة بشرفاتها الخشبية "المشربيات" التي تروي قصص العائلات القديمة.
كما أن الشارع تحوّل في السنوات الأخيرة إلى وجهة سياحية وثقافية تستقطب الزوار من مختلف أنحاء العالم، خاصة بعد مشروع الترميم الكبير الذي أعاد إليه بريقه التاريخي. ليلاً، تتزين المباني بالإضاءة الذهبية التي تُبرز جمال النقوش والزخارف الإسلامية، بينما تتعالى أصوات الموسيقى التقليدية من المقاهي المحيطة لتمنح المكان روحًا معاصرة دون أن تسرق منه سحر الماضي.

الحرفيون والموروث الحي في القاهرة التاريخية

بعيدًا عن الأسواق والآثار، تظل الحرف التقليدية قلب القاهرة القديمة النابض بالحياة. ففي دروب الجمالية والدرب الأحمر، ما زال الحرفيون يمارسون مهنًا توارثوها عبر أجيال، مثل صناعة الأرابيسك، وتطعيم الخشب بالصدف، والنقش على النحاس، وصناعة الفخار في حي الفسطاط. هذه الورش الصغيرة ليست مجرد أماكن عمل، بل مدارس حقيقية تنقل المهارة والإبداع من جيل إلى آخر.
الزائر يمكنه أن يعيش تجربة فريدة بمشاهدة مراحل صناعة القطع الفنية، حيث يتحول الخشب إلى تحفة، والنحاس إلى لوحة، والفخار إلى رمز من رموز الهوية المصرية. ومع الجهود الحديثة لإحياء هذه الصناعات من خلال مبادرات حكومية ومراكز للحرف التراثية، بدأت القاهرة القديمة تستعيد دورها كمركز للحرف والفنون التقليدية، يربط الماضي بالحاضر ويمنح الأجيال الجديدة فخرًا بانتمائها لهذا التراث العريق.

القاهرة القديمة ليست مجرد موقع أثري أو وجهة سياحية؛ إنها ذاكرة مدينةٍ صنعت التاريخ وألهمت الأدباء والفنانين من كل أنحاء العالم. في أزقتها تختبئ قصص الملوك والبسطاء، في أسواقها تنبض حياةٌ لا تنتهي، وفي حجارتها تسكن روح مصر الأبدية. من خان الخليلي إلى شارع المعز، ومن ورش الحرفيين إلى المقاهي القديمة، تبقى القاهرة القديمة مرآةً للزمن الجميل، ووجهةً لكل من يسعى لاكتشاف جوهر الحضارة المصرية التي لا تعرف الفناء.

اشترك في قناة سائح على واتس آب لجولات حول العالم