أقدم مستوطنة معمارية في الجزيرة العربية تظهر إلى النور
يمثل اكتشاف هيئة التراث في المملكة العربية السعودية بالتعاون مع مشروع نيوم حدثاً مفصلياً في دراسة تاريخ الإنسان القديم على أرض الجزيرة العربية. فقد أعلنت الهيئة عن العثور على أقدم مستوطنة معمارية تعود إلى العصر الحجري الحديث في موقع "مصيون" بمنطقة تبوك شمال غرب المملكة، وهو اكتشاف يقدَّر عمره بنحو 11 ألف عام. هذا الإعلان لم يكن مجرد حدث أثري عابر، بل يعد تحولاً في فهم بدايات الاستيطان البشري وتطور العمارة وأنماط الحياة في المنطقة، إضافة إلى كونه يعيد رسم خريطة الحضارات المبكرة في العالم.
الموقع الذي كشفت عنه الهيئة يمثل حلقة مفقودة طالما سعى الباحثون إلى فهمها، إذ يسلط الضوء على التحولات الثقافية والإنسانية في مرحلة ما قبل الفخار، وهي إحدى المراحل الحساسة التي شهدت بدايات الاستقرار البشري بعد حياة الصيد والتنقل. وقد جاءت هذه النتائج ثمرة أعمال مشتركة بين هيئة التراث وجامعة كانازاوا اليابانية، لتبرز أهمية التعاون الدولي في العلوم الأثرية.
فيديو ذات صلة
This browser does not support the video element.
موقع "مصيون": نافذة على التاريخ العميق
يقع موقع المصيون في منطقة تبوك، وهي من المناطق الغنية بالتنوع الجيولوجي والطبيعي والتي لطالما احتضنت حضارات قديمة. وقد أدى المسح الأثري والتنقيب إلى العثور على بقايا معمارية واضحة تشير إلى وجود استقرار بشري مبكر ومنظم. ما يميز المستوطنة أنها لا تمثل مجرد آثار سكنية، بل تشير إلى مجتمع له طقوسه وتنظيمه ونمط حياته الخاص، وهو ما يجعلها مختلفة عن مواقع الصيد المؤقتة التي عرفتها الجزيرة في الفترات الأقدم.
وتقدر الدراسات الأولية عمر هذه المستوطنة بنحو 11 ألف سنة، ما يعني أنها تعود إلى فترة العصر الحجري الحديث "ما قبل الفخار" وهي مرحلة سبقت استخدام المواد الفخارية في الحياة اليومية. وقد كشفت التحليلات أن السكان في تلك الفترة كانوا على تواصل حضاري مع مناطق أخرى مثل الهلال الخصيب، مما يؤكد أن الجزيرة العربية لم تكن معزولة عن العالم القديم كما كان يُعتقد سابقاً.
طقوس جنائزية تكشف عمق الحياة الاجتماعية
ضمن نتائج البحث، نُشرت ورقة علمية في مجلة Asian Journal of Paleopathology تناولت طقوس الدفن والجنازة التي وُجدت في المستوطنة. هذه الطقوس تعكس جانباً إنسانياً وروحياً مهماً لدى السكان الأوائل، إذ تشير إلى وعي بالموت وطرق خاصة لتكريم الأموات. وجود المدافن في موقع سكني مستقر يعزز فكرة التحول من نمط الحياة البدوي إلى نمط أكثر استقراراً وتنظيماً.
كما تشير بقايا الهياكل ومواقع الدفن إلى وجود مجتمع مترابط له ممارساته وثقافته، وربما نظام اجتماعي بسيط يحدد الأدوار ويضمن الاستمرارية في المكان، وهو ما يشكل دليلاً إضافياً على أن هذه المنطقة شهدت بدايات الاستقرار الإنساني قبل مناطق أخرى مجاورة.
أهمية الاكتشاف في مسار الدراسات الأثرية
يأتي هذا الاكتشاف ليضع المملكة العربية السعودية في موقع ريادي على خريطة الاكتشافات العالمية. فهو لا يؤكد فقط قِدم الاستيطان البشري في الجزيرة العربية، بل يعيد تشكيل تصور الباحثين عن بدايات العمارة والعلاقات الثقافية في المشرق القديم. كما يعزز مكانة المملكة كمركز مهم لدراسة جذور الحضارة الإنسانية، خصوصاً في ظل الجهود التي تقودها هيئة التراث لدعم التنقيب والحفاظ على المواقع الأثرية بالشراكة مع مؤسسات دولية.
ويمثل الكشف عن أقدم مستوطنة معمارية خطوة من المتوقع أن يتبعها المزيد من الاكتشافات، إذ تستمر أعمال التنقيب في الموقع نفسه أملاً في الكشف عن تفاصيل إضافية حول الحياة اليومية، وأنماط البناء، والأنشطة الاقتصادية التي مارسها السكان.
في الختام، فإن اكتشاف مستوطنة "مصيون" لا يعد مجرد حدث أثري، بل هو شهادة على التاريخ العميق للجزيرة العربية ودليل على الدور الذي لعبته في تطور الإنسان منذ آلاف السنين. ومع استمرار البحث، قد تحمل المنطقة المزيد من المفاجآت التي ستسهم في كتابة فصل جديد من تاريخ البشرية من قلب الصحراء العربية.