المتحف المصري: صرح التحرير يكشف أسرار سبعة آلاف عام
يُعد المتحف المصري الواقع في قلب ميدان التحرير بالقاهرة أقدم وأهم متحف أثري في الشرق الأوسط، بل ويضم أكبر مجموعة من الآثار المصرية القديمة في العالم. هذا الصرح المعماري العريق، الذي تم افتتاحه عام 1902، ليس مجرد مكان لعرض المقتنيات؛ إنه بوابة زمنية حقيقية تأخذ الزائر في رحلة عميقة تمتد لأكثر من سبعة آلاف عام من الحضارة. فكل زاوية وكل قاعة في هذا المتحف الكلاسيكي تخفي وراءها أسراراً وتفاصيل دقيقة تكشف عن عبقرية المصري القديم في الفن، والعلوم، والتنظيم، والحياة الدينية. وتُعرض فيه مجموعات فريدة تمتد من عصر ما قبل الأسرات وحتى العصرين اليوناني والروماني، مما يجعله شاهداً حياً على استمرارية وتطور الحضارة المصرية.
كنوز الملوك الذهبية: حكايات توت عنخ آمون
أحد أهم الأسرار والكنوز التي جعلت المتحف المصري بالتحرير مشهوراً عالمياً هي المجموعة المذهلة للملك الذهبي توت عنخ آمون. ورغم أن هذه المجموعة قد نُقلت أو في طور النقل للعرض الكامل في المتحف المصري الكبير، إلا أن اكتشافها وعرضها لأول مرة كان في هذا المتحف التاريخي. كنوز توت عنخ آمون التي تجاوزت 5000 قطعة أثرية، كشفت عن الأبهة والجلال الذي وصل إليه الفن في عصر الدولة الحديثة. يتصدر هذه الكنوز القناع الجنائزي الذهبي الشهير، المصنوع من الذهب الخالص والمطعم بالأحجار الكريمة، بالإضافة إلى التوابيت الذهبية المتداخلة، والمقاصير الخشبية المذهبة، والتمائم والحلي، وكرسي العرش المذهب الذي يُعد تحفة فنية نادرة. هذه القطع لا تُظهر فقط ثراء الملك، بل تكشف عن براعة الحرفيين المصريين ومهارتهم في التعامل مع المعادن النفيسة والتفاصيل الدقيقة، وتُلقي الضوء على الطقوس الجنائزية المعقدة ومعتقداتهم حول الحياة الأخرى.
فيديو ذات صلة
This browser does not support the video element.
البرديات والطقوس الجنائزية: أسرار الخلود
يحتفظ المتحف المصري بمجموعة استثنائية من البرديات التي تُعد مصدراً أساسياً لفهم المعتقدات الدينية والطقوس الجنائزية للمصريين القدماء، والسر وراء هاجسهم بالخلود. ومن أبرز هذه البرديات تلك التي تحمل نصوصاً من "كتاب الموتى" (ويُعرف أيضاً باسم "كتاب الخروج بالنهار"). هذا الكتاب ليس مجرد نص ديني، بل هو مجموعة من التعاويذ السحرية والإرشادات التي كان يعتقد أنها تساعد المتوفى على اجتياز العقبات في العالم السفلي وتحقيق النجاة. وتُعرض في المتحف برديات كاملة، مثل بردية يويا وتويا، وهي ممتدة بطول كبير وتتضمن رسوماً توضيحية غنية تُجسد مشاهد من الطقوس وعبادة الإله أوزوريس. كما يكشف المتحف عن أسرار عملية التحنيط المعقدة، التي كانت تقنية سرية تُستخدم للحفاظ على الجسد سليماً، مما يؤكد إيمانهم الشديد بالبعث. التماثيل، كتماثيل الخدم، المعروضة في المتحف تكشف أيضاً عن اعتقادهم بضرورة وجود من يخدم المتوفى في الحياة الأخرى.
تماثيل الملوك وبناة الأهرام: قصة الدولة القديمة
يحتوي المتحف المصري على مجموعة لا تُقدر بثمن من التماثيل التي تعود إلى فترات مبكرة من التاريخ المصري، وخاصة عصر الدولة القديمة (بناة الأهرام). تُعرض هنا تماثيل رائعة للملوك العظماء الذين أمروا ببناء عجائب الدنيا السبع الباقية، ومنهم الملك خوفو وخفرع ومنكاورع. هذه التماثيل، المصنوعة بدقة ومهارة عاليتين من مواد صلبة كالديوريت والجرانيت، لا تُظهر فقط القوة والسلطة المطلقة للملوك، بل تعكس التطور الفني في نحت وتجسيد الشكل البشري. بالإضافة إلى ذلك، يضم المتحف مقتنيات أخرى من عصور لاحقة، مثل كنوز تانيس المصنوعة من الذهب والفضة، وتماثيل الآلهة المختلفة كالإلهة حتحور، مما يُكمل السرد التاريخي للحضارة المصرية القديمة ويبرز التنوع الجغرافي والثقافي للممالك المصرية المتعاقبة.
في الختام، يظل المتحف المصري في ميدان التحرير، بصفته أقدم وأغنى مستودعات الحضارة المصرية، مكاناً تتنفس فيه أسرار الفراعنة. إنه ليس فقط شاهداً على عظمة الماضي، بل هو مصدر إلهام مستمر للعلماء والفنانين والجمهور على حد سواء. كل قطعة أثرية، من المومياوات الملكية المهيبة إلى الحلي الصغيرة المزخرفة، هي فصل في كتاب الخلود المصري، يكشف عن عبقرية هذه الحضارة التي أدهشت العالم. وبينما تستعد المقتنيات للانتقال إلى عرضها الجديد المتكامل في المتحف المصري الكبير، سيبقى صرح التحرير بمثابة الرمز التاريخي الذي احتضن هذه الكنوز لأكثر من قرن، وشارك أسرارها مع العالم أجمع.