جبل راشمور.. النصب الذي نحت وجوه التاريخ
في قلب غابات الصنوبر الممتدة بولاية داكوتا الجنوبية بالولايات المتحدة الأمريكية، يقف واحد من أكثر المعالم شهرة وإثارة للجدل في آن واحد: جبل راشمور. هذا النصب العملاق الذي نُحتت على واجهته الصخرية وجوه أربعة من أبرز رؤساء الولايات المتحدة—جورج واشنطن، توماس جيفرسون، ثيودور روزفلت، وأبراهام لينكولن—لا يمثل مجرد تحفة معمارية مذهلة، بل يحمل ضمن طياته قصة وطنية معقدة تجمع بين الفخر القومي والجدل التاريخي. ويقع الجبل بالقرب من بلدة كيستون الصغيرة في منطقة جبال بلاك هيلز، التي تُعتبر مقدسة لدى عدد من القبائل الأمريكية الأصلية، وهو ما يضيف طبقة إضافية من الرمزية والتأمل لكل من يزوره.
كيف وُلد واحد من أضخم النُصُب في العالم؟
بدأت فكرة إنشاء النصب في عشرينيات القرن الماضي بهدف جذب السياحة إلى المنطقة النائية، حيث اقترح المؤرخ Doane Robinson نحت وجوه شخصيات بارزة في جبال بلاك هيلز. لكن النحات غوتزون بورغلوم كان له رأي آخر، فاختار أربعة رؤساء يمثلون مراحل مختلفة في تاريخ الولايات المتحدة: تأسيس الأمة، توسعها، تطورها، وحفظ وحدتها. بدأ العمل عام 1927 واستمر حتى 1941، مستخدمًا الديناميت والأدوات الدقيقة لنحت وجوه يبلغ ارتفاع كل منها حوالي 18 مترًا. ورغم أن المشروع لم يكتمل كما كان مخططًا—إذ كان من المفترض نحت الأكتاف والأجزاء العلوية من الأجساد—إلا أن الواجهة الحالية أصبحت رمزًا كافيًا يُعرّف بالبلاد في كثير من الأفلام والصور الترويجية.
فيديو ذات صلة
This browser does not support the video element.
تجربة زيارة لا تُنسى بين التاريخ والطبيعة
زيارة جبل راشمور ليست مجرد وقوف أمام صخور منحوتة، بل تجربة متكاملة تضم مسارات للمشي، ومراكز للزوار تشرح تاريخ النصب وتقنيات البناء، إضافة إلى منصة مشاهدة توفر زاوية مثالية لالتقاط الصور. في المساء، يُقام عرض إضاءة يُبرز الوجوه الأربعة في مشهد مهيب يصاحبه النشيد الوطني الأمريكي، ما يمنح الزائرين لحظة تأمل ووقار. كما يمكن زيارة "قاعة السجلات" المخفية خلف النصب، والتي تحتوي على وثائق تخلد تاريخ المشروع والدلالات الرمزية لكل وجه من الوجوه.
أما بلدة كيستون القريبة، فهي نقطة انطلاق مريحة مليئة بالمطاعم والمتاجر الصغيرة والفنادق الريفية، ما يجعل منها قاعدة مثالية لاستكشاف المنطقة. ويمكن للزوار توسيع رحلتهم بزيارة معالم أخرى قريبة مثل متنزه "بادلاندز الوطني" أو التوجه إلى نصب "كريزي هورس" المنافس، الذي يتم العمل عليه لتكريم أحد أبرز قادة السكان الأصليين.
رمز وطني أم قضية تاريخية؟
رغم مكانته الراسخة كأحد أشهر المعالم الأمريكية، فإن جبل راشمور يثير الجدل لدى العديد من السكان الأصليين، إذ تقع الصخور المنحوتة على أراضٍ تعتبرها قبيلة لاكوتا المقدسة. بالنسبة للبعض، يُنظر إلى النصب على أنه تجسيد للهيمنة الاستعمارية، بينما يراه آخرون رمزًا للحرية والتقدم. هذا التباين يجعل من زيارة الجبل فرصة ليس فقط للاستمتاع بمنظر مهيب، بل للتفكير في معنى التاريخ وكيف يُخلّد، ومن يحق له روايته.
في النهاية، سواء كنت من المهتمين بالهندسة أو التاريخ أو مجرد عاشق للمناظر الضخمة، فإن جبل راشمور يقدم تجربة سفر فريدة تجمع بين الإعجاب البصري والأسئلة العميقة. إنه ليس مجرد صخرة منقوشة بل مرآة لرواية أمة، بكل أمجادها وتناقضاتها.