جولة في قلب المملكة: كنوز القرى التراثية السعودية

  • تاريخ النشر: الأربعاء، 22 أكتوبر 2025 زمن القراءة: 4 دقائق قراءة
مقالات ذات صلة
كنوز التراث الإنساني حول العالم
في قلب المملكة: مدن سعودية تغير خريطة السياحة العالمية
رحلة إلى الماضي.. استكشاف كنوز التراث في أبها

تُعدّ المملكة العربية السعودية متحفاً طبيعياً يمتد على مساحة شاسعة، حيث تتنوع جغرافيتها وثقافتها لتشكل نسيجاً حضارياً فريداً. ومن بين كنوزها الخفية التي تستحق الاكتشاف، تبرز القرى التراثية كشواهد حية على تاريخ البلاد العريق وأصالة فنونها المعمارية. هذه القرى ليست مجرد مبانٍ قديمة، بل هي سجلات تاريخية مكتوبة بالطين والحجر، تحكي قصص الأجيال الماضية، وتفصح عن حكمة البناء والتكيّف مع البيئة القاسية. لقد أولت المملكة اهتماماً متزايداً بترميم وتأهيل هذه المواقع، ضمن رؤية تهدف إلى المحافظة على الإرث الوطني وجعله وجهة سياحية وثقافية عالمية، بما يتماشى مع "رؤية السعودية 2030" التي تضع السياحة والتراث في صلب اهتماماتها، لتنقل الزائر في رحلة عبر الزمن يلمس فيها جمال البساطة وعمق التاريخ. إن التجول في أزقة هذه القرى يمثل تجربة حسية متكاملة، حيث يُستنشق عبق الماضي وتُشاهد ملامح الحياة التي شكلت الهوية السعودية على مر القرون.

ذي عين: القرية الرخامية المعلقة

في جنوب غرب المملكة، وبالتحديد في منطقة الباحة، تقع قرية ذي عين التراثية، والتي تُعد من أجمل وأغرب القرى التراثية على مستوى شبه الجزيرة العربية. يمتد تاريخ القرية لأكثر من 400 عام، وتتميز بموقعها الفريد الذي يشبه القلعة المعلقة على قمة جبل أبيض، وقد سميت بهذا الاسم نسبةً لعين الماء العذبة التي تتدفق من باطن الجبل لتسقي مزارعها. اللافت في قرية ذي عين هو طرازها المعماري المتميز، حيث شُيّدت منازلها الحصينة من أحجار الجرانيت الصلبة وحجر المرو الأبيض، وهو نوع من الكوارتز يغطي واجهات المباني، مما يمنح القرية لونها الرخامي البراق الذي يتلألأ تحت أشعة الشمس. تتكون البيوت من عدة طوابق، قد يصل ارتفاع بعضها إلى خمسة أدوار، وقد صُممت بطريقة هندسية دفاعية لحمايتها في الماضي. كما تُعرف القرية بإنتاجها للكادي والنباتات العطرية والموز والليمون، بفضل وفرة المياه التي تجري تحت سفح الجبل، ما يضفي عليها طابعاً زراعياً خلاباً يمزج بين صلابة العمارة وجمالية الطبيعة. وقد تم إدراج القرية على القائمة الإرشادية المؤقتة لمواقع التراث العالمي لليونسكو، تأكيداً لقيمتها التاريخية والعمرانية الاستثنائية.

فيديو ذات صلة

This browser does not support the video element.

رجال ألمع: قلاع الطين والحجر في عسير

شمال مدينة أبها في منطقة عسير، تقف قرية رجال ألمع "Rijal Almaa" شامخة كشاهد على تاريخ تجارة القوافل بين اليمن وبلاد الشام ومكة المكرمة. يعود تاريخ إنشاء هذه القرية لأكثر من 900 سنة، وتتكون من نحو 60 مبنى متعدد الطوابق، يصل ارتفاع بعضها إلى ثمانية طوابق. يتميز الطراز المعماري في رجال ألمع بكونه طرازاً متفرداً يجمع بين الطين والحجر والخشب المحلي، مع واجهات مزينة بأشكال هندسية فريدة تعرف باسم "القُطّ"، وهي فن زخرفي نسائي تقليدي في عسير. كانت منازل القرية، التي تشبه القلاع أو الحصون، تستخدم كأبراج مراقبة ومخازن للحماية والدفاع، وتُبنى جدرانها من صخور البازلت الأسود القوية وتُزخرف بحجر الكوارتز الأبيض. حصلت القرية على جائزة الأمير سلطان بن سلمان للتراث العمراني، وتم اختيارها من قبل منظمة السياحة العالمية كواحدة من أفضل القرى السياحية في العالم، ما يؤكد أهميتها الثقافية والسياحية. تحتضن القرية حالياً متحفاً أسسه أهالي المنطقة، يضم آلاف القطع التراثية والمخطوطات والصور التي تحكي نمط حياة مجتمع رجال ألمع وتاريخه العسكري والاجتماعي العريق.

أشيقر: قلب نجد الطيني النابض بالعلم

في قلب منطقة نجد، وبالقرب من محافظة شقراء التابعة لمنطقة الرياض، تقع بلدة أشيقر "Ushaiqer" التراثية، والتي تُعد من أقدم البلدات النجدية ويعود تاريخ استقرارها إلى ما قبل 1500 عام. اشتهرت أشيقر بكونها محطة رئيسية للقوافل والحجاج القادمين من نجد والخليج والمتجهين إلى مكة والمدينة المنورة، كما كانت مركزاً علمياً ودينياً بارزاً خرج منها العديد من العلماء البارزين. تتميز القرية بطابع العمارة النجدية الأصيلة؛ حيث بُنيت بيوتها الطينية القديمة بجدران سميكة من اللبن الطيني لحمايتها من حرارة الصيف وبرودة الشتاء، وسُقفت بأخشاب الأثل وسعف النخيل. تتشابك بيوتها في شبكة من الأزقة والممرات الضيقة والمتعرجة المصممة لتوفير الظل وتسهيل التواصل الاجتماعي بين السكان. تحيط بالبلدة أسوار ضخمة وأبراج مراقبة، وتضم أكثر من 400 منزل طيني و25 مسجداً قديماً، من بينها المسجد الجامع ومسجد الفيلقية. اليوم، وبعد عمليات الترميم والتأهيل، تحولت أشيقر إلى وجهة سياحية نشطة، تقدم للزائرين تجربة معيشية تراثية أصيلة من خلال مطاعمها ومقاهيها التي تقدم المأكولات النجدية العريقة، لتظل شاهداً حياً على عمق التاريخ النجدي.

في الختام، تمثل القرى التراثية السعودية مثل ذي عين ورجال ألمع وأشيقر، أكثر من مجرد معالم سياحية؛ إنها روايات مجسّدة عن فنون العمارة المحلية، وحكمة الأجيال في التعايش مع بيئاتهم، وتجسيد للهوية الثقافية المتنوعة للمملكة. إن الجهود المبذولة للحفاظ على هذه القرى وتأهيلها تُعد استثماراً في الذاكرة الوطنية ومستقبلاً ثقافياً مزدهراً. زيارة هذه المواقع تمنح الزائر فرصة فريدة للتأمل في عظمة الماضي، وتقدير البساطة التي شكلت الحضارة، وتؤكد على أن المملكة العربية السعودية بتاريخها المعماري الثري هي وجهة عالمية بامتياز تجمع بين الأصالة والمعاصرة.