التراث في زمن المخاطر والكوارث الطبيعية

التراث في زمن المخاطر والكوارث الطبيعية

  • s.beghouraبواسطة: s.beghoura تاريخ النشر: السبت، 27 يناير 2024
التراث في زمن المخاطر والكوارث الطبيعية

تنطلق أهمية معرفة قيم الفنون من حقيقة اعتبارها المرآة العاكسة لصور الحياة ولما بلغته من رقي وحضارة. وفنون الحضارات القديمة هي أدق معيار تقاس به نهضة الأمم، كما أنها الوسيلة إلى معرفة نفسية الشعوب والتعرف على ما تتطلع إليه، وتمثل في مجموعها تراثا إنسانيا صاغه المختصون فيما يعرف بتاريخ الفنون.

التراث الإنساني

 لعل أهم ما يتميز به التراث الإنساني منذ القدم هو الفنون التطبيقية والعمارة التي حملت رسائل لا حدود لها امتدت وتغلغلت في عصور التاريخ منذ أزمنة بعيدة، ولتلك الفنون فروع متنوعة لها طابعها الإقليمي الذي تتميز فيه بأسلوب صناعي وذوق فني وطابع خاص من الجمال ،وكان الإحساس بالجمال قد سبق اليد إلى تناول صناعة الأشياء ثم سارا جنبا إلى جنب عندما تناول الإنسان الأول المواد الطبيعية ليكسبها مظهرا يحقق الأغراض التي صنعت من أجلها ، وهذا المظهر يجمع بين ما يحقق الأغراض النفعية وبين حسن التعبير عن جمال ” الفورمة ” في شكل معين . ويتطور هذا المظهر مع مرور الزمن تبعا لنمو الإحساس الغريزي بالجمال في معناه ومبناه .

والتراث الإنساني في جملته لا يخلو من بدائع تدل على أن أصحابها استوعبوا الكثير من أصول العلوم والفنون وبرعوا فيها براعة تدعو إلى الفخر تفرض مزيدا من الحرص على دوام صيانتها وتؤكد ضرورة حمايتها في كل الظروف . إن هذه الدعوة لا تنطلق من فراغ ، فكل طراز فني في أي زمن من الأزمنة وعند أي شعب من الشعوب إنما يخضع لعاملين جوهريين :

  •  الأول: وهو ” الرمزية “ أي ما يتبع الميل والاختيار والتفضيل.
  • الثاني : وهو “العضوية “ أي ما تقدمه الأرض من مواد صالحة للتعمير والإنشاء.

دراسة تاريخ الفن

دراسة تاريخ الفن في شتى العصور وسيلة إلى فهم الإنسانية وتفسير ما في حياتها من غموض ، وهذه الدراسة تنحصر في شيئين :

  • الجوهر، ويشتمل على البيئة ، واثر النظم السياسية والمعتقدات دينية في تحديد نوع القوى المحركة للحياة.
  • العناصر، وتشتمل على تطور الأسلوب للفني عندما يتغير مجرى الوجود ، وتنتقل من مصير إلى مصير ظن وعلى تراجم حياة المبدعين  ونقد أعمالهم .

وتفسير ذلك أن تاريخ الفنون يرتبط ارتباطا وثيقا بتاريخ سياسة الدول على ما اقتضته القواعد التي قررتها الأديان والمذاهب السياسية والنظم الاجتماعية والاقتصادية، كما وإن الفنون تستمد قوتها وحيويتها من نهضة الشعب التي تقوم على معتقدات دينية وعقائد سياسية وأسس اجتماعية، وهي كلها روابط طبيعية متينة تسري في عروق الأمة ، وتختلف النظم السياسية في حياة الأمم وتتنوع بظهور مبادئ ونظريات تتبع التطور الاقتصادي والاجتماعي والفكري بما يناسب الزمان والمكان ، أي البيئة التي تعيش فيها الأمة.

تيارات التغيير عبر التاريخ

هناك تيارات مختلفة تهب فجأة فتعصف بالأوضاع الاجتماعية والنظم السياسية وتحل محلها أوضاع ونظم أخرى، وهذه الرياح تأتي مع تقلب الزمن وتطور العصور، ويبدو أثر هذا التطور والتغير في النشاط السياسي والاجتماعي لتعمير أرض الدولة وهي مسرح حياة الشعوب  بإقامة المنشآت والأبنية وزخرفتها وتجميلها بمختلف أساليب الفن التي تمثل أثر الدين والسياسة في توجيه الأمة وتكوين نهضتها بما يوحي إلى الأجيال المتعاقبة حقيقة قيمتها ومقدار ما بلغته من حضارة ورقي ، أو همجية و انحلال، وفنون التراث والعمارة تتبع هذا التطور والتغير وتتلون وتتبدل بتبدل المدنيات التي تلائم العصر دون الأخرى .

التيارات الدينية

لقد أحدثت همجية طوائف متشددة وجماعات متطرفة إلى المساس بمناطق أثرية بالغة الأهمية كانت تمثل تراثا انسانيا  هاما يوثق ماديا أحداثا تاريخية ويشهد عليها ، فما أحدثته أيادي الإرهاب في منطقة ” تدمر ” في سوريا من تحطيم كلي للآثار، والاعتداء العنيف على المتاحف والمساجد العراقية ومحاولة تحطيم متحف الحضارة الفرعونية في قلب العاصمة المصرية القاهرة والاعتداءات المتكررة بالمتفجرات على عشرات الكنائس التي تمثل تراثا هاما بالنسبة للأقباط المسيحيين  وغيرها الكثير هو في الحقيقة من قبيل المؤامرة على الحضارة الإنسانية.

دور الحكومات

ومن الآثار السلبية لتقصير الحكومات وعجزها في احتواء تأثيرات التغير المناخي وتحجيم نتائجه الضارة على البيئة والإنسان ومنها وقوع الزلازل  المدمرة وزيادة نشاط البراكين الخامدة ، وذوبان الجليد وهبوب الأعاصير والزوابع الشديدة واجتياح الفيضانات وزيادة منسوب البحار ، وإصابة الكثير من أراضي دول بالتصحر والجفاف ، كلها مظاهر لكوارث طبيعية خطيرة ، قد لا يكون ليد الإنسان أي دخل في الكثير منها ، لأنها وقائع لا يملك الإنسان أي إرادة في منعها.

ولكن كان يمكن مواجهتها بالمزيد من الحيطة واليقظة الأمنية من جهة ، ومن جهة أخرى مواصلة تكثيف وزيادة حجم تدريس مادة التاريخ في المناهج الدراسية في كل مراحل التعليم في الفروع الأدبية والعلمية ، واستخدام شرائط الفيديو في الشرح لجذب المتابعة زيادة المتعة والتشويق ،وأيضا تنظيم رحلات تثقيفية لتلاميذ المدارس وطلبة الثانويات والجامعات للمواقع التاريخية والتراثية وتكليف مختصين بشرح أسرارها وتفسير معالمها، وتكثيف حضور الرموز التاريخية والتراثية المادية وغير المادية وكذلك المعالم الأثرية في تصوير مشاهد الأفلام السينمائية والمسلسلات التلفزيونية ، وتخصيص مساحة واسعة للشرائط الوثائقية التي تتناول الفنون التراثية في مختلف وسائل الإعلام ، وكلها من أجل خلق ارتباط وجداني متصل بين النشء وتاريخهم وتراث أجدادهم يبعث في نفوسهم الاعتزاز والفخر ويتعمق لديهم الفهم الصحيح لمغزى الاهتمام بالآثار بعيدا عن ضلالات الفرق المنحرفة وتحصينا لهم من محاولات التغرير بهم للنيل من تاريخهم وهويتهم ، وحسنا فعلت الكثير من الحكومات العربية بإقامة مهرجانات فنية شبابية واحتفالات وطنية وحفلات استعراضية تخليدا لأحداث تاريخية في ذات المواقع الأثرية التي جرت فيها ، ومضاعفة جهود التوعية بالحفاظ على سلامة المواقع التراثية، والالتزام بالتعليمات والتشريعات المنظمة لزيارة المناطق التاريخية ، والتحلي بالانضباط في التنقل بين المواقع وعدم المساس أو العبث غير المسؤول بالمواد التراثية .

الصراعات السياسية

لقد أحدثت الصراعات السياسية بؤرا للتوتر المسلح في العديد من مناطق العالم ، أدت إلى تحطيم كلي ومتعمد لمعالم  تاريخية في الكثير من الدول كانت شواهد على حضارات عريقة وذلك بداية من الحرب العالمية الثانية وصولا إلى نتائج غزو العراق ، إنها مخاطر يتعرض لها التراث الإنسان بفعل الإنسان نفسه ونابعة عن إرادته.

يحدث أن تتعرض بعض المواقع التراثية لخطر الاندثار بفعل عوامل طبيعية  قد تكون مناخية كالعواصف الرملية الهوجاء خاصة بالمناطق الصحراوية ، أو نتيجة  تقديرات بيئية خاطئة بعدما أوشكت معابد فيلة الفرعونية خلال إحدى مراحل بناء السد العالي بمدينة أسوان في مصر على الغرق في مياه النيل. ومن أجل مواجهة هذه المخاطر كان لابد من فرض إرادة المجتمع الدولي لفرض الأمن والسلم في النزاعات الدولية ، والتأكيد على الحل السلمي للخلافات بين الدول ، وتنسيق الجهود الدولية لتمويل عمليات الصيانة  الدورية للمواقع التراثية في العالم وإعداد ميثاق شرف عالمي يحدد قواعد الاشتباك بعيدا عن المساس بالمناطق التراثية والمحميات الطبيعية المصنفة من منظمة اليونيسكو.

دور المجتمع الدولي

تعد عناية المجتمع الدولي بالتراث الإنساني القديم والجديد دلالة قوية على يقظة الرأي العام لصيانة مصادر القوة في ميادين العلوم والفنون المتوارثة، على أن مفاهيم الإنقاذ والصيانة والتحفظ لا يجب أن تؤخذ على أنها منادب أوساحات للنعي والرثاء والترحم على الماضي ، والجدير بالذكر الدور الفعال والكبير الذي تقوم به دولة الإمارات العربية المتحدة في نشر الثقافة التاريخية والتراثية، والجهود المشكورة في التعريف بالمدن التاريخية والمناطق التراثية ومعالمها في دولة الإمارات العربية المتحدة وفي الدول العربية والإسلامية والتي امتدت إلى باقي دول العالم على خلفية الحرص على إيضاح القيم الثقافية الكبرى، وقد كان من ذلك إبراز المناطق الأثرية بالإمارات من بين أهمها “مدافن جبل حفيت ” في العين وتعود إلى ما يقارب 5 آلاف عام وهي قبور جنائزية في شكل قباب، و “حديقة آثار الهيلي” وهي من أثار البنية التحتية الزراعية الدالة على وجود قرية زراعية منذ العصر البرونزي والحديدي.

أهمية التراث الإنساني

إن الإدراك بأهمية التراث ما زال في أمس الحاجة إلى تقويم وتقنين يجعلنا لا نرتد إلى أداء طقوس اقترنت بعصور غابرة وحتى لا يحملنا هذا التقويم إلى هدم آثار الماضي، والتراث يخص التاريخ البشري عامة لأنه ماضي الإنسانية ومستقبلها ، والمشكلة في تقنين هذا التراث على أسس جديدة أنه قد تختلف طبيعة هذه الأسس كلية عن الأهداف التي أقيمت الآثار من أجلها وعن الأغراض التي صنعت لها ، فأساس التقويم الجديد يجب أن يكون برؤية الماضي بمنظار الحاضر ووفقا لحاجيات الظروف المعاصرة، والبحث في المعالم القديمة قد يكشف عن جوانب تخدم الأغراض الاجتماعية الحالية ويمكن أن يساعد على الوثوب إلى الأمام لمسايرة الزمن الحاضر، والتراث في أبعاده الجديدة هو جزء لا يتجزأ من هيكل البناء الوطني للأمم ، يتطور معه ، وتطوره الشعوب معها وتقوّمه وتستند إليه.

التراث الإنساني والعالم الإسلامي

الجوامع التراثية في العالم الإسلامي كانت وما زالت لها دور كبير في تثبيت العقيدة وتوحيد المسلمين ،مثل المسجد الحرام في مكة المكرمة والمسجد النبوي بالمدينة ومسجد الكوفة في العراق والجامع الأموي في دمشق ومسجد كيتشاوة في الجزائر الذي يقع على مشارف حي القصبة الزاخر بالقيم التراثية ،ومنذ تأسيس مساجد عريقة أخرى جمعت بين الجامع والجامعة مثل جامع الأزهر في القاهرة والقرويين في فاس المغربية والزيتونة في تونس وغيرها الكثير تعدى دورها إلى القيام بدور علمي وفكري وثقافي تميزت به الحضارة الإسلامية على امتداد العصور.

والمتأمل لدور الجوامع يشعر بأن الأمة الإسلامية قامت على أسس العلم ودعائم المعرفة ،وتصديقا لما قاله العلامة الأزهري والأديب الكبير أحمد حسن الزيات (1968 – 1886)” أن المتأمل الواعي أمامها يكون مهيّأ بطبعه للاتصال الروحي بماضيه المشرق وتاريخه الحافل ويقع على خاطره دلالات وذكريات وأطياف تملأ  النفس خشوعا وجلالا وروعة ” ولعل هذه الاعتبارات في حد ذاتها تمثل التحديات التي كانت وراء الهجمة التي استهدفت تشويه هذه الجوامع وتحطيمها، لذا كان من الضروري مضاعفة الجهود لتنوير النشء بمدلول ” التراث” وأهميته الذي يعني الحديث عنه الحديث عن صلة الحاضر بالماضي وعن الرباط القائم بينهما الذي يربط مستجدات الزمن بالثابت المنصرم في فضاء هذا الماضي.

كما إن هذه الكلمة تحيل إلى ما هو ثقافي وحضاري يمثل إنجازاً فعليا أفرزته رؤية وطنية لنفسها في إطار علاقة تفاعلية قوامها قوة التأثير وقوة التأثر فاستقرت بصفة الحضور المتواصل عبر الزمن ، وأن التراث يمثل مرتكزا من مرتكزات ثلاثة تتشكل عليها هوية الشخصية الوطنية اللغة ، الدين ، والتراث التي تكتسب منها الأمة خصوصيتها بين غيرها من الأمم ، لذا فمن أشد المخاطر أن يجرى المساس بالتراث بزعم الحديث المنطوي على براءة  مصطنعة حول جدلية العلاقة بين الأصالة والمعاصرة ، المحافظة والتجديد ، أو التقليد والابتكار لأنها تبقى ذات خطر بالنسبة إلى الوعي الفردي والجمعي لأنها تثبّت فرضية أن شرط بقاء أحدها هو مقابل زوال الأخرى .

اشترك في قناة سائح على واتس آب لجولات حول العالم
  • المحتوى الذي تستمتع به هنا يمثل رأي المساهم وليس بالضرورة رأي الناشر. يحتفظ الناشر بالحق في عدم نشر المحتوى.

    s.beghoura

    الكاتب s.beghoura

    كاتبة صحفية في السياسة والمجتمع والثقافة والأدب والإدارة والاقتصاد والتراث قاصة وشاعرة مهتمة بقضايا الإنسان والمجتمع

    image UGC

    هل لديكم شغف للكتابة وتريدون نشر محتواكم على منصة نشر معروفة؟ اضغطوا هنا وسجلوا الآن!

    انضموا إلينا مجاناً!