"مصر هبة النيل": حكاية ميلاد دولة على ضفاف أطول نهر في العالم

  • تاريخ النشر: الأربعاء، 12 مايو 2021 آخر تحديث: الخميس، 25 يناير 2024
"مصر هبة النيل": حكاية ميلاد دولة على ضفاف أطول نهر في العالم

إذا كنت تخطط للسفر إلى مصر، وصعدت على متن الطائرة متجهاً إليها، فلا بد أن تختار مقعدك بجوار النافذة، وتثبت عينيك جيداً على المشهد الذي يرتسم عند تحليق الطائرة فوق هذه الدولة العريقة، بإمكاني وصف المشهد الذي ينتظرك: شريط أرزق طويل، يحيط به من الضفتين شريطان أخضران وينتهي بدلتا مثلثة الشكل، ومن خلفهما تترامى الصحراء بلا حدود، هذا المشهد ربما يشرح لك كيف كان لنهر النيل الفضل في ميلاد الدولة المصرية وتحويلها من صحراء قاحلة إلى جنة خضراء صاحبة حضارة عمرها آلاف السنين.

"مصر هبة النيل"، عبارة شهيرة يحفظها المصريون عن ظهر قلب منذ المهد، وهي ترجع للمؤرخ الإغريقي الأشهر هيرودوت، الذي يُلقب بأبو التاريخ، وقالها في القرن الخامس قبل الميلاد، أي قبل نحو 2500 سنة من اليوم، وفيها لخص كل شيئ، فعلى ضفاف نهر النيل ظهرت أقدم وأعظم حضارات الأرض، ولولاه لبقيت مصر صحراء قاحلة مترامية الأطراف.

نهر النيل

هو أطول أنهار العالم، حيث يصل طوله إلى 6 آلاف و 695 كيلومتر تقريباً، ويقع في قارة أفريقيا، متكوناً من رافدين رئيسيين وهما: النيل الأبيض الذي ينبع من بحيرة فكتوريا في الواقعة بين دول: أوغندا وكينيا وتنزانيا، والنيل الأزرق الذي يبدأ في بحيرة تانا في إثيوبيا.

ويلتقي هذين الرافدين عند العاصمة السودانية الخرطوم؛ ليشكلا معاً نهر النيل الذي يجري عبر الصحراء الكبرى في مصر والسودان؛ ويصب مياهه في نهاية مساره في البحر المتوسط.

ويغطي نهر النيل 10 دولة هي: تنزانيا، أوغندا، رواندا، بوروندي، الكونغو، كينيا، إثيوبيا وإريتريا كدول منبع، إضافة إلى السودان ومصر كدولتي مصب.

ميلاد مصر

خلال العصر الحجري القديم، كانت مقومات الحياة البشرية متوفرة في منطقة شمال أفريقيا، نظراً لنمو الأعشاب والأشجار واستيطان قطعان الغزلان والأبقار والأغنام، التي اعتمد الإنسان على صيدها باستخدام آلات بدائية عُثر على كثير منها في صحراء مصر الشرقية والغربية.

لكن التغيرات المناخية دفعت السكان للبحث عن مصادر المياه مثل الأنهار، نتيجة الجفاف وندرة الأمطار، ومن هنا ظهر نمط جديد من المجتمعات في مصر، يقوم على الزراعة، حيث ساعد نهر النيل المصريين على تكوين مجتمعات صغيرة يتعاون أفرادها في زراعة ما بها من أراضي، وأحياناً كانوا يلجأون إلى توسيع الحدود بالاستيلاء على المجتمعات المجاورة إلى أن اندمجت هذه المجتمعات مشكلة كياناً أكبر اتحد في عهد الملك "مينا" قبل 5200 سنة، فظهر أول شكل مترابط سياسياً واجتماعياً للأراضي المصرية بفضل النيل.

وبعدما حقق المصري القدم الاستقرار على ضفاف نهر النيل، وأنتج قوت يومه من خلال الزراعة، انطلق إلى ميادين العلم والمعرفة والتقدم الهائل ومن ثم بناء الحضارة.

تسمية نهر النيل

كان المصريون القدماء يسمون نهر النيل "إيترو عا" وتعني: النهر العظيم، أما كلمة "نيل" فالبعض يُرجح أن أصلها اللغوي يوناني من "نيلوس"، وآخرون يقولون إنها فينيقية الأصل مشتقة من الكلمة السامية "نهل"، بمعنى: مجرى أو نهر.

لكن المؤرخ اليوناني ديودور الصقلي، أشار إلى أن "النيل" أطلق عليه هذا الاسم تخليداً لذكرى ملك يُدعى "نيلوس" اعتلى عرش البلاد وحفر الترع والقنوات، فأطلق المصريون اسمه على نهرهم.

ويحتفظ المتحف المصري، بعقد بيع مدون على بردية يعود إلى العصر الروماني بين رجع يُدعى "نيلوس" وآخر يُدعى "إسيدوروس".

وفي كتابه الموسوعي "حضارة مصر القديمة"، أكد العالم المصري رمضان عبده، أن كلمة "نيل" أصلها مصري صميم مشتق من العبارة "نا إيترو" والتي تعني النهر ذو الفروع، كما أطلق المصريون على مجرى النهر اسم "حبت إنت إيترو"، أي مجرى النهر، وأطلقوا على فروع النيل في أرض مصر "إيترو نوكيمت" أي فروع الأرض السوداء.

التقويم النيلي

لاحظ المصريون أن نهر النيل يفيض في فصل الصيف والأرض في أشد الحاجة إلى المياه، فيغمرها ويجدد حياتها، بينما ينحسر في أوقات تناسب الزراعة ونثر الحبوب، فاجتهدوا في ابتكار طرق تهدف إلى الاستفادة من مياه النهر، من خلال تنظيم الري وحفر الترع لزراعة أكبر مساحة ممكنة من الأرض.

كما وضع المصريون القدماء ما يُعرف بـ"التقويم النيلي" الذي يبدأ بالفيضان، كما لاحظوا اقتران الفيضان بظاهرة فلكية وهي ظهور نجم الشعرى اليمانية.

يوضح العالم الفرنسي نيقولا غريمال في دراسته "تاريخ مصر القديم": "كانت نقطة الانطلاق لتحديد بداية العام الجديد هي قياس ارتفاع منسوب مياه الفيضان، وما يُسجل عند مستوى مدينة منف، وهي الأرض التي شهدت توحيد مصر، ويتفق ذلك مع ظهور نجم الشعرى اليمانية، وفقا للتقويم اليولياني، وتحدث هذه الظاهرة في 19 من شهر يوليو/ تموز".

وأحصى الفلكيون المصريون عدد الأيام بين كل ظهور للنجم فوجدوها 365 يوماً، وقسموها إلى 12 شهراً، كما قسموا السنة إلى 3 فصول، تحددت بناءً على أحوال النيل وهي: "آخت" وهو فصل الفيضان وبذر البذور، من منتصف يوليو/ تموز إلى منتصف نوفمبر/ تشرين الثاني، و "برت" وهو فصل النمو، ويوازي فصل الشتاء، ويبدأ من منتصف نوفمبر/ تشرين الثاني إلى منتصف مارس/ آذار، و"شمو" فصل حصاد الزرع، من منتصف مارس/ آذار وحتى منتصف يوليو/ تموز، بحسب موقع BBC عربي.

كيف قدس المصريون نهر النيل؟

أدرك المصريون أن نهر النيل هو الذي شكل لهم حياتهم وبفضله بُنيت حضارتهم، ولهذا نظروا له بعين القداسة وخصصوا له عدداً من الآلهة، أشهرهم الإله "حعبي"، الذي يمثل فيضان النيل سنوياً، وهو مصدر الحياة الأولى عموماً، وقد وصف بـ"سيد القرابين، لكن أهم دور له كمعبود أنه يجسد فيضان النيل.

وجاء ذكر الإله "حعبي" في كثير مما يُعرف بـ"أناشيد النيل"، وضمن فقرات في "نصوص التوابيت"، كما أطلق عليه عدة أسماء منها: سيد الفيضان، رب آزلي، رب الأرباب وأقدم الأرباب.

ويرجع أقدم ظهور للإله "حعبي" كرب للفيضان في عصر الدولة القديمة، ويعود أقدم تصوير له إلى عهد الملك سنفروا، ومنذ بداية الأسرة الفرعونية الخامسة، بدأ تصوير "حعبي" ضمن آله الخصوبة في معبد الملك "ساحورع"، وتم تصويره على هيئة رجل ممتلئ الجسم له ثديان كبيرران يتدفق منهما الماء كرمز للخصوبة، ومما قيل عنه: "المديح لك يا حعبي، الذي يخرج من الأرض وياتي ليعيد الحياة لمصر".

وكان استخدام مياه النيل عند قدماء المصريين يحمل معنيين أحدهما مادي ويشمل نظافة الجسد والمأكل والملبس والمسكن وكذلك التطهر لاداء الطقوس الدينية، أما المعنى الروحي فيشمل ظهارة النفس روحياً من كل شائبة.

وحرص المصريون طهارة مياه النهر من كل دنس، واعتبروه واجباً مقدساً، ومن يلوث المياه يتعرض لعقوبة انتهاكه غضب الآلهة في يوم الحساب، وذلك بحسب ما يقوله أحد النصوص القديمة: "من يلوث ماء النيل سوف يصيبه غصب الله".

وبرز تقديس النيل من خلال حرص المصري على طهارة ماء النهر من كل دنس، كواجب مقدس، ومن يلوث هذا الماء يتعرض لعقوبة انتهاكه غضب الآلهة في يوم الحساب.

وفي كتاب فتوح مصر والمغرب" لعبد الرحمن بن عبد الحكم، جاء ذكر أسطورة "عروس النيل"، ورغم أنها لم ترد في أي من النصوص القديمة، لكن الكثيرين توارثوها ونقلوها، وهي عبارة عن عذراء تُقدم إلى النيل كقربان.

لكن المؤكد عن المصريين القدما أنهم لم يعتادوا على تقديم قرابين بشرية لأي معبود مهما علا شأنه.

"فليحيا الإله الكامل، الذي في الأمواه، إنه غذاء مصر وطعامها ومؤونتها، إنها يسمح لكل امرئ أن يحيا، الوفرة على طريقه، الغذاء على أصابعه، وعندما يعود يفرح البشر، كل البشر"، إنها ترنيمة دونها المصريون القدماء في نصوصهم الأدبية تبرز قدر اعتزازهم بنهر النيل، جاعلين منه الإله الذي وهب الحياة والخلد إلى مصر.

على سائح، تابع معنا كل أخبار السفر حول العالم، وأبرز نصائح السفر، وعادات وتقاليد الشعوب.