بصرى وحمص القديمة: جواهر سورية خارج مسار السياحة المعتاد

  • تاريخ النشر: منذ يوم زمن القراءة: 3 دقائق قراءة
بصرى وحمص القديمة: جواهر سورية خارج مسار السياحة المعتاد

تزخر سوريا بتاريخ حضاري يمتد لآلاف السنين، وتشتهر مدنها الكبرى مثل دمشق وحلب بكونها نقاط جذب رئيسية. ومع ذلك، يكمن جزء كبير من ثراء سوريا التاريخي والثقافي في مدنها الأقل شهرة، والتي تحتضن كنوزاً أثرية فريدة تستحق الاكتشاف. تُقدم مدن مثل بصرى الشام وحمص القديمة وجهاً مختلفاً للسياحة السورية، حيث يمكن للزائر أن يتعمق في عراقة الماضي دون صخب المدن الكبرى، وأن يلامس الآثار التي تروي قصصاً عن الإمبراطوريات الرومانية والنبطية والحضارة الإسلامية المبكرة. إن استكشاف هذه المواقع هو رحلة عبر مسارات زمنية متباينة، تُظهر التنوع المعماري والتاريخي الذي يجعل من سوريا متحفاً مفتوحاً للعالم.

بصرى الشام: مدينة البازلت ومسرح العصر الروماني

تقع بصرى الشام في جنوب سوريا، وتتميز بطابعها المعماري الفريد الذي يعتمد بشكل أساسي على حجر البازلت الأسود، وهو حجر بركاني يمنح مبانيها لوناً داكناً مميزاً وجمالاً معمارياً صلباً. كانت بصرى ذات أهمية كبرى على طريق التجارة القديم، وكانت عاصمة لمقاطعة "العربية البترائية" الرومانية. الجوهرة التي لا تُضاهى في بصرى هي المسرح الروماني، والذي يُعد واحداً من أكثر المسارح الرومانية حفظاً واكتمالاً في العالم. يتميز المسرح بقدرته الاستيعابية الهائلة التي تصل إلى حوالي 15,000 متفرج، والحالة الممتازة لمقاعده ومنصته (السكينيه). ما يزيد من فرادته هو أن المسرح محاط بالكامل بقلعة بُنيت لاحقاً في العصور الإسلامية لحمايته، مما ساهم في صون بنيته بشكل استثنائي. وبالإضافة إلى المسرح، تضم بصرى بقايا من الكنائس القديمة والمساجد المبكرة، بما في ذلك مسجد الجامع العمري الذي يُعد من أقدم المساجد في العالم، مما يجسد تداخل الحضارات الذي مرت به المدينة.

حمص القديمة: قلب المدينة ومزيج الحضارات

تُعد حمص، بتاريخها الذي يعود إلى آلاف السنين (إميسا الرومانية)، مدينة ذات موقع استراتيجي حيوي، حيث تقع كـ "بوابة" بين الداخل السوري والساحل. قلب المدينة النابض تاريخياً هو حمص القديمة، التي كانت تُعرف بازدهارها التجاري وتكوينها العمراني التقليدي الذي يغلب عليه الطابع الإسلامي المتأخر. تتميز حمص القديمة بأسواقها المسقوفة (الأسواق) التي كانت تشكل شبكة معقدة للتجارة والحرف اليدوية، والبيوت ذات الفناء الداخلي (البيوت العربية التقليدية). كما كانت تضم عدداً كبيراً من المعالم الدينية التي تظهر التعايش التاريخي للمدينة، ومن أبرزها جامع خالد بن الوليد ذو القبة الفضية المميزة، وكنيسة أم الزنار التاريخية التي تُعد مركزاً للمسيحية الأرثوذكسية. استكشاف حمص القديمة يمنح الزائر إحساساً عميقاً بمركزية المدينة في التاريخ السوري ودورها كملتقى للطرق التجارية والثقافية على مدى العصور.

التراث المعماري: قراءة في تقنيات البناء الأصيلة

إن الفارق المعماري بين بصرى وحمص القديمة يُقدم درساً في كيفية تكيف الحضارات مع الموارد المحلية والبيئة. فبينما تعتمد بصرى كلياً على حجر البازلت الأسود الصلب، الذي منح مبانيها متانة استثنائية وقدرة على الصمود لآلاف السنين، تظهر حمص القديمة مزيجاً من الحجر الكلسي الأبيض والطين والقرميد الأحمر، مما يعكس قربها من مصادر المواد الأرخص وسهولة الوصول إلى الطرق التجارية. التنوع في الأساليب يتجلى أيضاً في التفاصيل؛ فبصرى تحتفظ بالهندسة الرومانية الواضحة في مسرحها وميدانها، بينما تتجسد في حمص جماليات العمارة العثمانية والمملوكية، مع القباب والمآذن والزخارف الإسلامية. إن زيارة هذه المدن الأقل شهرة تُثري فهم الزائر لكيفية تطور التقنيات المعمارية المحلية تحت تأثير الغزاة والحضارات المتعاقبة، مما يضفي عمقاً على التجربة السياحية يتجاوز مجرد مشاهدة الآثار المشهورة.

في الختام، تُعد بصرى وحمص القديمة مدينتين ضروريتين في أي خريطة لاستكشاف التاريخ السوري الحقيقي. فهما تقدمان رؤية أعمق وأكثر تفصيلاً للتراث المتعدد الطبقات للبلاد، بعيداً عن صخب المراكز العالمية. سواء كانت العظمة الكلاسيكية للمسرح الروماني في بصرى المصنوع من البازلت الأسود، أو النسيج الحضري المعقد لأسواق حمص القديمة ومساجدها التاريخية، فإن هذه الوجهات تؤكد أن سوريا هي بالفعل كنز تاريخي يستحق الاكتشاف والحفاظ عليه. إن استكشاف هذه الجواهر يمثل احتفاءً بالصمود الثقافي والتاريخي لمنطقة لطالما كانت منارة للحضارات.

اشترك في قناة سائح على واتس آب لجولات حول العالم