قرطاج: مدينة الخلود بين الفينيقيين والرومان
تونس، بتاريخها العريق وتنوع حضاراتها، تحتضن واحدة من أقدم وأبرز المدن في منطقة المتوسط: قرطاج. هذه المدينة الساحلية الواقعة قرب العاصمة تونس ليست مجرد موقع أثري، بل شهادة حيّة على تداخل حضارات الشرق والغرب عبر آلاف السنين. تأسست قرطاج في القرن التاسع قبل الميلاد على يد الفينيقيين القادمين من صور بلبنان الحالي، ثم تحولت إلى قوة بحرية وتجارية عظمى نافست روما قبل أن تخضع لها لاحقًا وتُعاد بناؤها في العهد الروماني. اليوم، تُعد قرطاج واحدة من أهم المواقع الأثرية في شمال إفريقيا، وتم إدراجها ضمن قائمة التراث العالمي لليونسكو، ما يعكس قيمتها التاريخية والحضارية.
الجذور الفينيقية: ولادة مدينة بحرية عظمى
تروي المصادر التاريخية أن الفينيقيين أسسوا قرطاج حوالي سنة 814 قبل الميلاد بقيادة الملكة إليسار أو عليسة، المعروفة أيضًا باسم "ديدون". اختار الفينيقيون موقعًا استراتيجيًا على الساحل الشمالي لإفريقيا يسمح بالسيطرة على الطرق البحرية والتجارية بين الشرق والغرب. سرعان ما تطورت المدينة لتصبح مركزًا اقتصاديًا مهمًا بفضل مينائها المزدوج وقدرتها على بناء السفن وتجارة المعادن والنسيج والأرجوان. اعتمدت قرطاج على نظام سياسي متقدم نسبيًا في عصرها، ومؤسسات تجارية وعسكرية قوية جعلتها من أبرز القوى في حوض المتوسط. ولا تزال آثار "البونيقيين" ماثلة في بعض الأضرحة والمرافئ والتماثيل المكتشفة في المنطقة، إضافة إلى بقايا حي الأنفورا ومنشآت المرتفعات المشرفة على البحر.
فيديو ذات صلة
This browser does not support the video element.
المنافسة مع روما والتحول تحت الحكم الروماني
مع اتساع النفوذ القرطاجي، نشب صراع طويل مع الإمبراطورية الرومانية عُرف بالحروب البونيقية الثلاث (264–146 ق.م). قاد القائد القرطاجي الشهير حنبعل واحدة من أعظم الحملات العسكرية في التاريخ عندما عبر جبال الألب بفيلة وجيوشه، لكنه رغم إنجازاته لم يتمكن من كسر شوكة روما بالكامل. في الحرب الثالثة، دُمرت قرطاج تدميرًا شبه كامل سنة 146 قبل الميلاد، لكن الرومان عادوا بعد نحو قرن وأعادوا بناءها كمقاطعة رومانية مزدهرة. في العهد الروماني أصبحت قرطاج ثالث أكبر مدينة في الإمبراطورية بعد روما والإسكندرية، وتم تشييد مبانٍ ضخمة مثل المسرح الروماني والحمامات الأنطونية والمنتديات والفيلاّت الفخمة. هذا الازدهار جعلها مركزًا إداريًا وثقافيًا ودينيًا مؤثرًا عبر قرون.
قرطاج اليوم: ذاكرة حضارية وموقع تراث عالمي
اليوم، تقع أطلال قرطاج ضمن ضواحي العاصمة تونس وتشكل متحفًا مفتوحًا على التاريخ. يمكن للزائر التجول بين مسارح العهد الروماني، مثل المسرح الذي لا يزال يُستخدم للعروض الفنية، ومجمع الحمامات الأنطونية المطل على البحر، وهو من أكبر الحمامات العامة في ذلك العصر. كما تظهر بقايا الموانئ البونيقية، التي تكشف عبقرية التخطيط البحري لدى الفينيقيين، إلى جانب ضريح "توفات" الذي كان ذا طابع ديني خاص. تضم قرطاج أيضًا متحفًا أثريًا يعرض قطعًا تعود للفترة البونيقية والرومانية والبيزنطية والإسلامية المبكرة، ما يبرز تعدد طبقات التاريخ في هذا الموقع. وتحيط بالمدينة من جهة البحر مناظر طبيعية خلابة تجمع بين الأزرق المتوسطي وأطلال العصور القديمة.
رغم مرور آلاف السنين، ما زالت قرطاج تحتفظ بمكانتها كرمز حضاري يجمع بين القوة البحرية الفينيقية والعظمة العمرانية الرومانية. زيارتها ليست مجرد عودة إلى الماضي، بل فرصة لفهم كيف تفاعلت الحضارات وتبادلت النفوذ عبر الزمن. إن اكتشاف قرطاج يعني التعرف على مدينة لعبت دورًا محوريًا في رسم خريطة التاريخ المتوسطي، وتظل حتى اليوم شاهدة على التقاء الشرق بالغرب في نقطة مضيئة من شمال إفريقيا.