الكورة وجبل الشيخ: دروب بين الجبال والزيتون

  • تاريخ النشر: الإثنين، 27 أكتوبر 2025 زمن القراءة: 3 دقائق قراءة
مقالات ذات صلة
بين الجبال والوديان: مغامرة في دروب لبنان المخفية
ممرات الزمن: السير عبر دروب جبال السودة في عسير
كيفية زيارة جبل روبسون: أعلى قمة في جبال روكي

في قلب شمال لبنان، حيث تتلاقى الطبيعة الريفية بالهدوء العميق، تمتد منطقة الكورة كلوحة زيتية نابضة بالحياة بين تلال الزيتون وسفوح جبل الشيخ المهيبة. هنا، لا يقتصر الجمال على المشهد الطبيعي فحسب، بل يتغلغل في تفاصيل الحياة اليومية وأسلوب الناس الودودين الذين يعيشون بتناغم تام مع الأرض. المنطقة أصبحت في السنوات الأخيرة وجهة مفضلة لعشاق الدراجات الهوائية ومحبي الطبيعة، حيث تشكل طرقها الريفية المتعرجة، الممتدة بين البساتين والقرى القديمة، تجربة نادرة تجمع بين التحدي والاسترخاء في آن واحد.

دروب ريفية تحت ظلال الزيتون

الطريق من الكورة باتجاه سفوح جبل الشيخ ليس مجرد مسار جغرافي، بل رحلة حسية يعيشها الزائر بكل تفاصيلها. تبدأ المغامرة من القرى الصغيرة مثل بترومين وأميون، حيث تفوح رائحة الزيتون الطازج في الهواء، وتمر عبر تلال مغطاة بأشجار خضراء تمتد بلا نهاية. الدراجون الهواة والمحترفون على حد سواء يجدون في هذه الطرق الريفية متعة لا تضاهيها أخرى، فهي تجمع بين الانحدارات السلسة والصعود التدريجي، مما يجعلها مثالية للتدريب أو الاستجمام.
أما من يسلك الطريق سيرًا على الأقدام أو بسيارة مكشوفة، فسيُبهره تنوع المناظر من لحظة إلى أخرى؛ من المزارع الحجرية القديمة إلى الينابيع الصغيرة التي تروي الحقول، مرورًا بالبيوت التقليدية ذات الأسطح الحمراء. وفي كل زاوية تقريبًا، يجد المرء مقهى ريفيًا صغيرًا يقدم القهوة اللبنانية على أنغام الهدوء التام، وكأن الزمن توقف هنا منذ عقود.

فيديو ذات صلة

This browser does not support the video element.

بين الجبل والسماء: سحر جبل الشيخ

كلما اقتربت من جبل الشيخ، يزداد المشهد درامية وعمقًا. القمة المغطاة بالثلوج معظم أيام السنة تلوّح في الأفق كرمز للثبات والجمال، وتُعدّ مقصدًا لمحبي المغامرة والتزلج في الشتاء، ولمحبي التصوير والطبيعة في باقي الفصول. من هذه المنطقة، يمكن مشاهدة مشهد بانورامي يأسر الأنفاس يطل على سهل البقاع من جهة، وعلى البحر الأبيض المتوسط من الجهة الأخرى، في مزيج نادر لا يتكرر إلا في لبنان.
الهواء هنا نقي بشكل مذهل، يملأ الرئتين بطاقة متجددة ويمنح الزائر إحساسًا بالحرية المطلقة. الكثير من الدراجين يصفون لحظة الوصول إلى مشارف الجبل بأنها "تجربة روحية"، إذ يشعرون بأنهم يعبرون من عالم مزدحم إلى فضاء مفتوح من الصفاء والسكينة. كما تنتشر في محيط الجبل مسارات فرعية يمكن استكشافها سيرًا على الأقدام، حيث تنتظر الزوار قرى صغيرة مخبأة بين الصخور، وأطلال أديرة قديمة تروي حكايات قرون من الإيمان والحياة الجبلية.

رياضة وثقافة وطبيعة في انسجام فريد

ما يميز الكورة وجبل الشيخ ليس فقط الطبيعة الخلابة، بل هذا الانسجام العجيب بين الرياضة والثقافة والطبيعة. فكل رحلة بالدراجة أو نزهة ريفية تتحول إلى درس في التاريخ والجغرافيا اللبنانية. يمكن للزائر أن يتوقف عند معاصر الزيتون القديمة، أو يزور الأديرة الحجرية المنتشرة على التلال، أو يتذوق الأطباق المحلية مثل المناقيش الطازجة والمكدوس واللبنة البلدية، وكلها تُعد بأيدي سكان القرى الذين يفتخرون بتراثهم.
تُقام أحيانًا مهرجانات محلية تحتفي بثمار الزيتون أو بقدوم الربيع، وتتحول الشوارع الصغيرة إلى ساحات غناء ومأكولات وأحاديث لا تنتهي. أما عشاق التصوير، فيجدون في كل زاوية مشهدًا يستحق التوثيق: الضوء الذهبي عند الغروب، والضباب الذي يعلو سفوح الجبال، وصوت الريح وهو يمر بين الأشجار العالية. هذه التفاصيل الصغيرة هي ما تجعل التجربة في الكورة وجبل الشيخ تجربة لا تُنسى، متكاملة بين الجمال الطبيعي والروح الإنسانية الدافئة.

وفي الختام، تبقى الكورة وجبل الشيخ من الأماكن التي تُعيد تعريف معنى الجمال في لبنان، فهي ليست فقط مقصدًا للنزهة أو الرياضة، بل مساحة للتأمل والتجدد. هنا يتلاقى التاريخ مع الطبيعة، وتتناغم الجبال مع الزيتون، في مشهد يعكس جوهر الحياة اللبنانية البسيطة والعميقة في آن واحد. إنها رحلة لا تُقاس بالكيلومترات، بل باللحظات التي تُخلّد في الذاكرة، وتذكّر كل من يمر بها أن بعض الأماكن تُسافر فينا أكثر مما نسافر إليها.